الاثنين، 30 مايو 2016

فضيحة بالبحث العلمي: من إقصاء الباحثين إلى الغباء المعرفي

                       عبد الرحيم عنبي –  أستاذ باحث في علم الاجتماع بجامعة ابن زهر أكادير.

صدر مؤخرا كتاب بعنوان “السوسيولوجيا القروية بالمغرب: مقاربات وقضايا” عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر / أكادير، يقع هذا المطبوع المكون من 190 في ثلاثة أقسام، يتألف القسم الأول من ثلاثة فصول بينما يقع القسم الثاني في فصلين فيما يأتي القسم الثالث في ثلاثة فصول، تتصدر المطبوع مقدمة. كما ختم الباحث مطبوعه بخاتمة. ما يثير الانتباه في هذا المؤلف كون الباحث يذهب إلى كونه جاء بطرح جديد في مجال السوسيولوجيا القروية بالمغرب، معتبرا أن ما قدم من طرف الراحل عبد الكبير الخطيبي والأستاذة رحمة بورقية والأستاذ حسن رشيق، لا تعدو أن تكون أعمالا بسيطة وبالتالي فالباحث يعدنا كقراء؛ بأنه سيقدم دراسة عميقة تساعد الباحثين والأساتذة وكذا الفاعلين الاجتماعين على فهم الوسط القروي، لهذا دفعنا الفضول العلمي لقراءة هذا العمل. غير أن صدمتنا كانت كبيرة، حينما غيب الأستاذ الباحث، تاريخ علم الاجتماع القروي؛ الذي ظهر كتخصص معرفي، مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، صحيح أنه قبل هذه الفترة، كانت دراسات عديدة، قد اهتمت بالأوساط القروية، غير أنها، تنتمي في معظمها لدراسات مجاورة لعلم الاجتماع أو من داخل علم الاجتماع العام، ولا يمكن أن نصنفها في خانة علم الاجتماع القروي. لقد كانت بداية هذا التخصص في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، بحيث جاء كنتيجة للتعقيدات التي أفرزتها الأزمة الاقتصادية لسنة 1929،هكذا قام كل من روبرت ريدفيلد R. Redfield  و أوسكار لويس O. Louis  وغير هما بدراسة بعض المجتمعات القروية في مجتمعات أمريكا الجنوبية. ارتبط هذا التخصص كذلك، بظهور مجلة علم الاجتماع القروي سنة 1936 كجزء من عملية البحث عن الحل العلمي لمشاكل الوسط القروي الأمريكي.
لقد تأخر الاهتمام بهذا العلم في أوربا بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا مع ظهور الأبحاث الميدانية المرتبطة بالتجربة الوظيفية في علم الاجتماع، هذه النزعة لم تأخذ طريقها لدى علماء الاجتماع المهتمين بالوسط القروي إلا مع الخمسينيات من القرن الماضي، حيث وجد هذا التخصص صعوبات كثيرة في طريق الاعتراف الأكاديمي لدى الجامعات الغربية لأسباب سياسية مرتبطة أساسا بطبيعة الأنظمة السياسية، التي هيمنت في فترة ما بين الحربين. ففي فرنسا مثلا هيمنت الجغرافيا البشرية على دراسة الحياة القروية. برغم التحولات التي عرفتها المجتمعات الأوربية ذات التقاليد الفلاحية العريقة مثل فرنسا، فإن المجتمع القروي ظل في أواسط القرن الماضي محافظا على استقلاليته وخصوصيته، أعني “ثراء تقاليد صناعة الأجبان والخبز والخمور” هذه المقاومة منعت التحولات التي تعرفها المجتمعات من اختزال الساكنة القروية في الوسط القروي الفرنسي في مجرد جماعات مهنية أو طبقية. أما عن موضوع هذا العلم، الذي غاب من ذهن الباحث مما  جعله يقدم مادة تتناقض والعنوان الذي اختاره لهذا المطبوع ” السوسيولوجيا القروية بالمفرب: مقاربات وقضايا”  فإنه (موضوع علم الاجتماع القروي) يكمن في دراسة العلاقة التعارضية بين المدن والقرى وعلاقة ذلك بالتصنيع والتحديث ثم التحولات التي يعرفها النظام الفلاحي والأشكال الجديدة للاستغلال والعمل في الفلاحة أي دراسة القرويين / الأسرة القرويو / الاستغلاليات الفلاحية. أيضا، الاهتمام بمكانة الفلاحين في المجتمع وعلاقتهم بالحركات الاجتماعية والسياسية وسياسات التهيئة المجالية وعلاقتها بالتنمية المحلية وكذلك، علاقة التنمية بالطبيعة ومشاكل التلوث وتجديد وحماية الموارد الطبيعية وسيطرة مشاغل البيئة.
وعليه، فإنه من الناحية التاريخية، لا يمكن تصنيف الدراسات الكولونيالية ضمن علم الاجتماع القروي، وهو ما جعل الباحث يتناقض مع عنوا الكتاب، بحث يغري القارئ بعنوان السوسيولوجيا القروية، فيما أن القسم الأول يتحدث عن الدراسات الاثنوغرافية وهذا مرده بالأساس إلى عدم اطلاع الباحث على ما كتب من طرف المغاربة في هذا الباب والذي يعد كثيرا ورصينا.
تعمد الباحث إقصاء كل الباحثين المغاربة الذين أرخوا للسوسيولوجيا المغربية، بدءا بالراحل عبد الكبير الخطيبي والأستاذ عبد الفتاح الزين والأستاذ عبد الصمد الديالمي ثم الأستاذ قيس المرزوقي الورياشي والراحل الاستاذ محمد الدهان ثم إدموند بورك والاستاذ أحمد شراك وأخيرا محمد مدوي، الذين ساهموا بشكل كبير في مناقشة التراث الكولونيالي من خلال عناوين عدة أبرزها “العلوم الاجتماعية والسياسية في عصر الامبريالية” ثم ” العلم والأيديولوجيا في الأنتروبولوجيا الاستعمارية” كلها عناوين حاولت قراءة الاثنوغرافيا الاستعمارية والتي جاءت عكس ما أشار إليه المطبوع الجامعي، الذي ذهب في الصفحة 5 إلى القول بأن اهتمام السوسيولوجيا بالوسط القروي، جاء نابعا من الوزن الديموغرافي ومن أجل المراقبة والتدخل، فحين أن الاهتمام بالبحث الاثنوغرافي بالمغرب جاء نابعا من كون المغرب شكل ساحة للصراع بين الجماعات السياسية والبيروقراطية والاقتصادية المتنافسة في فرنسا ثم السؤال حول أية سياسة يجب أن تتبع بشأن المغرب، هذا البلد الذي عليه أن يتطور أو يضمحل ومن ثمة فالصراع كان أساسه من يتحكم في مراقبة البحث العلمي بالمغرب. إن الباحث تناول من خلال القسم الأول والذي عنونه ب ” رواد السوسيولوجيا القروية الكلاسيكية” النزر القليل من المواضيع التي طرحتها الدراسات الاثنوغرافية المنجزة حول مغرب ما قبل الحماية الفرنسية، وبهذا فإنه لم يقدم مادة تهم درس السوسيولوجيا القروية، بقدر ما سقط في موضوع قديم ويتعلق الأمر بالتأريخ للسوسيولوجيا المغربية، وبالتالي، فإن عدم عودة الباحث إلى ما كتب حول هذا الموضوع جعله يقدم مادة يشوبها نوع من التناقض، بحيث نجده يعنون هذا القسم  ” رواد السوسيولوجيا القروية الكلاسيكية” بينما الأمر يتعلق بباحثين إثنوغرافيين، سخروا المعرفة العلمية لخدمة أغراض استعمارية. أضف إلى ذلك أن هذا القسم لم يناقش أهم القضايا التي طرحت خلال هذه الفترة، بحيث جاء هذا القسم عبارة عن “تراجم الشعراء” ولعمري هذا مضر بالبحث السوسيولوجي بشكل عام.
أما القسم الثاني والذي اختار له الباحث عنوان “النظرية الانقسامية مطبقة على المجتمع القروي”
فهذا أمر حسمت فيه العديد من الدراسات، التي تربط بين بروز النظرية الانقسامية بظهور الدراسات حول المجتمعات القروية بالمدرسة الكولونيالية “أشدد هنا على الدراسات القروية وليس علم الاجتماع القروي” ثم امتداداتها المنحصرة في المدرسة الانقسامية Ségmentarisme التي ركزت على المناطق النائية، ذات الصعوبات المناخية كما هو الحال بالنسبة لقبائل الأطلس في المغرب وقبائل النوير في السودان وبعض القبائل الليبية. لقد تبلور الطرح الانقسامي منذ أواخر القرن التاسع عشر من خلال دراسة منوغرافية مفصلة أنجزت من طرف هانوتو ولوتورنو ( HANOTEAU  et  LETOURNEUX) حول منطقة القبائل بالجزائر، التي كشف من خلالها الباحثان عن وجود صراعات “الصفوف” وتطور النزاعات الفردية والعائلية عبر مسلسل من التحالفات ثم التضارب بين الفرق والقبائل، وهي الدراسة التي اعتمدها دركهايم في “كتابه تقسيم العمل الاجتماعي” فيما الباحث يشير على أن دوركايم درس منطقة القبائل بالجزائر،
يذهب الباحث من خلال هذا المطبوع إلى الحديث في القسم الثالث، عن رواد السوسيولوجيا القروية المعاصرة، واقتصر في هذا الباب على جاك بيرك وبول باسكون كما أقحم جغرافيا في هذا الموضوع ويتعلق الأمر ب: لازاريف.
ما يميز هذا العمل كونه لم يستطع صاحبه أن يصنف الباحثين الذين أجروا مجموعة من الدراسات حول المجتمع القروي المغربي، بحيث نجد خلطا كبيرا بين الاثنوغرافين والانثربولوجيا السياسية مع روبير مونطاني وكذلك، الانتروبولوجيا والجغرافيا، وبالتالي فالباحث لم يطلع على الدراسات التي أنجزت حول الموضوع. مما جعله يغتر بكونه سيقدم الجديد والحال أنه قزم من المواضيع، التي ناقشتها المدرسة الكلونيالية وكذا الدراسات الانتربولوجية. أيضا، هناك عدم الوضوح في تقديم الباحثين وإعطاء سنوات ومعلومات من غير أن يوثقها، ففي الصفحة رقم 11 على سبيل المثال يشير الباحث إلى كون ادموند دوتي انتقل إلى المغرب سنة 1900 دون إحالة مرجعية. أيضا، تحدث عن جاك بيرك، الذي أنجز دراسة حول العقود الرعوية مشيرا إلى الشاوية وتادلة في حين أغفل مرحلة مهمة في تكوين جاك بيرك ويتعلق الأمر باستقرار هذا الأخير بقبائل بني مسكين / البروج.
أعتقد أن هذا العمل بخس القيمة العلمية التي أضافها الأستاذ الراحل محمد جسوس لعلم الاجتماع القروي، بحيث أن الرجل اهتم بالنظريات الكبرى المؤسسة لهذا العلم. كما كان يدعوا إلى وضع قطيعة مع المدرسة الكولونيالية كونها لا تستند على منهج ونظرية. فعلم الاجتماع القروي المغربي بدأ من مرحلة تواجده ضمن المؤسسة ولعمري حدث مع بول باسكون ومحمد جسوس، بحيث بدأ الاشتغال على قضايا جزئية وعلى المؤسسات القروية، مما ساهم في بروز جيل من الباحثين في هذا المجال ولا بد من الوقوف على الفريق الذي كان يعمل رقفة بول باسكون. أيضا، الأستاذ محمد جسوس كون علماء في هذا المجال من بينهم الأستاذة رحمة بورقية والمختار الهراس والأستاذ محمد المرجان والأستاذ عمار حمداش والأستاذ الهادي الهروي ثم الأستاذ إدريس بن سعيد والأستاذ عبد الفتاح الزين. كما ساهمت رحمة بورقية في تكوين جيل آخر مثل الأستاذ عبد الغني منذب والأستاذ محمد دحمان والأستاذ عبد المجيد العماري، فيما ساهم الهراس في تكوين جيل موازي وكذلك الأستاذ إدريس بن سعيد الذي كون جيلا في علم الاجتماع القروي أذكر على سبيل المثال الأستاذ عبد الرحيم العطري الذي اشتغل على ظاهرة الأعيان بقبائل الرحامنة. لم يشر الباحث إلى مساهمة الراحلة فاطمة المرنيسي، التي درست مساهمة المرأة القروية من خلال كتابها نساء الغرب ثم الأستاذة مليكة البلغيثي من خلال مساهمتها في دراسة الأسرة القروية والأستاذة خديجة المسدالي ودراستها حول المرأة القروية بدكالة وكذلك الأستاذة فاطمة المسدالي ومساهمتها بخصوص الأسرة القروية. أيضا، تم إقصاء باحثين من فاس، أذكر على سبيل المثال، الأستاذ عبد الجليل حليم، الذي درس البنيات الزراعية ثم الأستاذ محمد سلام شكري ودراسة التغيرات الاجتماعية بالأوساط القروية والأستاذ عبد السلام الفراعي.
أعتقد أن ما قدمه الباحث لا يعدو أن يكون سيرة ذاتية لبعض الباحثين في مجالات شتى اهتمت بدراسة المجتمع القروي وبالتالي وجب تغيير العنوان وهنا تتحمل الجهة التي مولت طبع هذا المطبوع كامل المسؤولية، في عدم إخضاع مثل هذه الأعمال إلى لجنة للتحكيم من ذوي الاختصاص، على غرار ما تفعله مع باحثين آخرين، الذين خضعت أعمالهم للتحكيم من طرف لجن علمية. الكتاب وللأسف لم يفتح آفاقا جديدة مثل ما قامت به الأستاذة رحمة بوقية التي أسست لدراسة قضايا جزئية بالوسط القروي وكذلك الأستاذ المختار الهراس الذي ربط الوسط القروي بسوسيولوجيا الحدود. إن الباحث ظل أسيرا للمدرسة الكولونيالية والتي قدمها معزولة عن الإطار الذي جاءت فيه. فالأوساط القروية اليوم باتت تعرف وقائع جديدة، علينا أن ننتبه إليها. وبالتالي فإنني أرى بأن هذا العمل عكس ما جاء في المقدمة، كونه معد للباحثين والأساتذة وغيرهم، فأنا أرى بأن هذا العمل لا يصلح للأكاديمي، نظرا لشح المعطيات التي جاء بها وتسطيح المعرفة السوسيولوجية من خلال طمس مجهودات العديد من الباحثين المغاربة الذين ناقشوا هذه القضايا، التي يرى الباحث أنها جديدة، وخير دليل على كونها موضوع تتوفر فيه مادة دسمة هو وجود العديد من المواقع بالشبكة العنكبوتية التي تعج بنفس العناوين والفقرات التي نجدها متضمنة بهذا المطبوع.